وقفة
عبدالنبي الشعلة
… في خطوة رمزية أخرى تهدف إلى التقرب للغرب وترميم علاقة تركيا بدوله، والتنصل من تبعات بعض جوانب تاريخ الدولة العثمانية، حول اتاتورك “الجامع الكبير الشريف لآيا صوفيا” متحفا، وقد كان هذا المبنى في الأصل كنيسة، أو كاتدرائية، منذ العصر البيزنطي بناها الإمبراطور جستينيان الأول في العام 537 ميلادية كأكبر مبنى في العالم في ذلك الوقت، والذي اعتبر رمز للحضارة البيزنطينية وجوهرة عمارتها، وفي العام 1453 فتح العثمانيون القسطنطينية وتم تحويل هذه الكنيسة مسجدا.
كان كمال أتاتورك عسكريًا، وتوفي في العام 1938 معتقدًا أنه حقق لتركيا في 15 عامًا ما يجعلها تنطلق وتحلق بسهولة في آفاق الحداثة، مع أن تحقيق الحداثة في أوروبا؛ مسقط رأسها، احتاج نحو ثلاثة أو أربعة قرون.
ومن الواضح أن أتاتورك لم يدرك أن الحداثة لا تُنجز من الأعلى فقط، ولا تتحقق باستخدام القوة، ولا تنجح من دون توفر المرتكزات والقواعد الفكرية والعلمية اللازمة لتدعيمها وترسيخها؛ فحدثت الانتكاسة أو الردة بعد أقل من 80 عامًا عندما تحرك “الحرس القديم” وانتفضت قوى الممانعة ومؤسساتها التقليدية المتربصة؛ فتسلم” حزب العدالة والتنمية” السلطة في العام 2002 وبدأ العد التنازلي للتراجع وللعودة إلى الفكر التقليدي وإلى أحلام عصر الإمبراطورية العثمانية المنقرض، وإلى المفهوم المتخلف للقوة والعظمة عن طريق الاستبداد والسيطرة والتوسع.
في إيران حدث الامر نفسه، فبعد عامين من تولي أتاتورك السلطة في تركيا، تولى السلطة في بلاد فارس الشاه رضا بهلوي (سميت إيران لاحقًا) العسكري الذي أطاح حكم الدولة القاجارية فيها، ووضع قضية الحداثة على رأس أولوياته محاولًا تتبع خطوات أتاتورك الإصلاحية، فبادر فور توليه السلطة، وبالقوة أيضًا، الى فرض إصلاحات وصف بعضها بالسطحية، أو القشرية، أو الاستفزازية، مثل إجبار النساء على خلع الحجاب، والرجال على لبس الزي الغربي من ضمنه القبعة. وبعد أن تمت تنحيته عن الحكم من قبل الروس والبريطانيين في العام 1941؛ تولى السلطة ابنه الشاه محمد رضا بهلوي إبان اشتداد الحرب العالمية الثانية، فواصل مسيرة والده التحديثية مدشنًا ما أسماه “الثورة البيضاء” التي شملت بناء شبكة طرق برية وسكك حديد، ومطارات والعديد من السدود ومشاريع الري، واستصلاح الأراضي وإعادة توزيعها على المواطنين، والقضاء على الأمراض المتفشية، مثل الملاريا، وتشجيع ودعم التنمية الصناعية، والارتقاء بمستوى التعليم ومكانة المرأة والخدمات الصحية وغيرها من الإصلاحات، إلا أن كل ذلك جاء بأوامر عليا، ومن دون مشاركة المجتمع في اتخاذ القرار، ومن غير إرساء القواعد والمرتكزات الفكرية والعلمية المطلوبة، وبالتغافل عن حقيقة أن الحداثة والقمع والاستبداد لا يمكن أن تعيش في مكان واحد؛ فجاءت الردة أو الانتكاسة الكبرى عندما هرب الشاه من إيران بعد أن انفجرت في وجهه الثورة الإيرانية في العام 1979 بقيادة الإمام الخميني التي أدارت العجلة إلى الوراء، وأعادت هيمنة المؤسسات الدينية والتقليدية على كل مفاصل ومرافق الحياة في الجمهورية الإسلامية. إن مؤسسات الموروث الديني التقليدية وقوى الفساد والديكتاتورية في العالم العربي والإسلامي لا تفتقر إلى الإرادة ولا تنقصها القدرة على تعطيل أو تأخير أو إجهاض أي محاولة لتحقيق الحداثة في الدول العربية والإسلامية، وهي بطبيعة الحال عازمة على ذلك حماية لمواقعها ومصالحها، وبذريعة أن الحداثة قوة أجنبية غازية يجب مقاومتها والتصدي لها حماية لقيمنا ومعتقداتنا، كما كانت حال المؤسسة الدينية الرجعية في أوروبا قبل أن تكتسحها منجزات الحداثة.
وزير العمل البحريني السابق